فصل: ذكر عزل خالد وأخيه أسد عن خاسان وولاية أشرس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.سنة تسع ومائة:

.ذكر عزل خالد وأخيه أسد عن خاسان وولاية أشرس:

قيل: وفي هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك خالد بن عبد الله وأخاه عن خراسان.
وسبب ذلك أن أسداً تعصب حتى أفسد الناس وضرب نصر بن سيار ونفراً معه بالسياط، منهم: عبد الرحمن بن نعيم وسورة بن الحر والبختري ابن أبي درهم وعامر بن مالك الحماني، وحلقهم وسيرهم إلى أخيه خالد، وكتب إليه: إنهم أرادوا الوثوب بي. فلما قدموا على خالد لام أسداً وعنفه وقال: ألا بعث إلي برؤوسهم؟ فقال: نصر:
بعث بالعتاب في غير ذنبٍ ** في كتابٍ تلوم أم تميم

إن أكن موثقاً أسيراً لديهم ** في همومٍ وكربةٍ وسهوم

رهن تعس فما وجدت بلاءٍ ** كإسار الكرام عند اللئيم

أبلغ المدعين قسراً وقسر ** أهل عود القناة ذات الصون

هل فطمتم عن الخيانة والغد ** رأم أنتم كالحاكر المستديم

وقال الفرزدق:
أخالد لولا الله لم تعط طاعةً ** ولولا بنو مروان لم يوثقوا نصراً

إذاً للقيتم عند سد وثاقه ** بني الحرب لا كشف اللقاء ولا ضجرا

وخطب يوماً أسد فقال: قبح الله هذه الوجوه وجوه أهل الشقاق والنفاق والشغب والفساد! اللهم فرق بيني وبينهم وأخرجني إلى مهاجري ووطني.
فبلغ فعله هشام بن عبد الملك، فكتب إلى خالد: اعزل أخاك، فعزله، فرجع إلى العراق في رمضان سنة تسع ومائة، واستخلف على خراسان الحكم ابن عوانة الكلبي، فأقام الحكم صيفية فلم يغز، ثم استعمل هشام أشرس ابن عبد الله السلمي على خراسان وأمره أن يكاتب خالداً. وكان أشرس فاضلاً خيراً، وكانوا يسمونه الكامل لفضله، فلما قدم خراسان فرحوا به، واستقضى أبا المنازل الكندي ثم عزله واستقضى محمد بن زيد.

.ذكر دعاة بني العباس:

قبل: أول من قدم خراسان من دعاة بني العباس زياد أبو محمد مولى همدان في ولاية أسد، بعثه محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وقال له: انزل في اليمن والأطف مضر، ونهاه عن رجل من نيسابور يقال له غالب لأنه كان مفرطاً في حب بني فاطمة، ويقال: أول من أتى خراسان بكتاب محمد بن علي حرب بن عثمان مولى بني قيس بن ثعلبة من أهل بلخ، فما قدم زياد دعا إلى بني العباس وذكر سيرة بني أمية وظلمهم، وأطعم الناس الطعام، وقدم عليه غالب وتناظرا في تفضيل آل علي وآل العباس، وافترقا؛ وأقام زياد بمرو وشتوة ويختلف إليه من أهلها يحيى بن عقيل الخزاعي وغيره.
فأخبر به أسد، فدعاه وقال له: ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: الباطل، وإنما قدمت إلى تجارة وقد فرقت مالي على الناس، فإذا اجتمع خرجت. فقال له أسد: اخرج عن بلادي.
فانصرف فعاد إلى أمره، فرفع أمره إلى أسد وخوف من جانبه، فأحضره وقتل معه عشرة من أهل الكوفة ولم يبنج منهم إلا غلامان استصغرهما، وقيل: بل أمر بزياد أن يوسط بالسيف، فضربوه بالسيف فلم يعمل فيه، فكبر الناس، فقال أسد: ما هذا؟ قيل: نبا السيف عنه، ثم ضرب أخرى فنبا السيف عنه، ثم ضربه الثالثة فقطعه باثنتين، وعرض البراءة على أصحابه، فممن تبرأ خلى سبيله، فتبرأ اثنان فتركا وأبى البراءة ثمانية فقتلوا.
فلما كان الغد أقبل أحدهما إلى أسد فقال: أسألك أن تلحقني بأصحابي، فقتله، وذلك قبل الأضحى بأربعة أيام، ثم قدم بعدهم رجل من أهل الكوفة يسمى كثيراً فنزل على أبي النجم، وكان يأتيه الذين لقوا زياداً، فكان على ذلك سنة أو سنتين، وكان أمياً، فقدم عليه خداش، واسمه عمارة غلب عليه خداش، فغلب كثيراً على أمره.
وقيل في أمل الدعاة ما تقدم.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة غزا عبد الله بن عقبة الفهري في البحر، وغزا معاوية ابن هشام أرض الروم ففتح حصناً يقال له طيبة، فأطيب معه قوم من أهل أنطاكية.
وفيها قتل عمر بن يزيد الأسيدي، قتله مالك بن المنذر بن الجارود، وسبب قتله أنه أبلى في قتال يزيد بن المهلب، فقال يزيد بن عبد الملك: هذا رجل العراق. فغاظ ذلك خالد بن عبد الله وأمر مالك بن المنذر، وهو على شرط البصرة، أن يعظمه ولا يعصي له أمراً، وأقبل يطلب له عثرة يقتله بها، فذكر مالك بن المنذر عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر فافترى عليه، فقال عمر بن يزيد: لا تفتر على مثل عبد الأعلى. فأغلظ له مالك وضربه بالسياط حتى قتله الأسيدي بضم الهمزة، وتشديد الياء تحتها نقطتان.
وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك الترك من ناحية أذربيجان فغنم وسبى وعاد سالماً.
وحج بالناس هذه السنة إبراهيم بن هشام، فخطب الناس فقال: اسألوني فإنكم لا تسألون أحداً أعلم مني. فسأله رجل من أهل العراق عن الأضحية أواجبة هي، فما درى ما يقول، فنزل، وكان هو العامل على المدينة ومكة والطائف، وكان على البصرة والكوفة خالد بن عبد الله القشري، وكان قد استخلف على الصلاة بالبصرة أبان بن ضبارة الشربي، وعلى الشرطة بها بلال ابن أبي بردة، وعلى قضائها ثمامة بن عبد الله بن أنس، وعلى خراسان أشرس.
وفي هذه السنة مات أبو مجلز لاحق بن حميد البصري.
وفيها غزا بشر ابن صفوان عامل إفريقية جزيرة صقلية فغنم شيئاً كثيراً ثم رجع من غزاته إلى القيروان وتوفي بها من سنتها، فاستعمل هشام بعده عبيدة بن عبد الرحمن بن أبي الأغر السلمي، فعزل عبيدة يحيى بن مسلمة الكلبي عن الأندلس واستعمل حذيفة بن الأحوص الأشجعي، فقدم الأندلس في ربيع الأول سنة عشر ومائة، فبقي والياً عليها ستة أسهر ثم عزل، ووليها عثمان بن أبي نسعة الخثعي. ثم دخلت:

.سنة عشر ومائة:

.ذكر ما جرى لأشرس مع أهل سمرقند وغيرها:

في هذه السنة أرسل أشرس إلى أهل سمرقند وما وراء النهر يدعوهم إلى الإسلام على أن توضع عنهم الجزية، وأرسل في ذلك أبا الصيداء صالح بن طريف مولى بني ضبة والربيع بن عمران التميمي. فقال أبو الصيداء: إنما أخرج على شريطة أن من أسلم لا تؤخذ منه الجزية، وإنما خراج خراسان على رؤوس الرجال. فقال أشرس: نعم. فقال أبو الصيداء لأصحابه: فإني أخرج، فإن لم يف العمال أعنتموني عليهم؟ قالوا: نعم. فشخص إلى سمرقند من حولها إلى الإسلام على أن توضع عنهم الجزية،فسارع الناس، فكتب غوزك إلى أشرس أن الخراج قد انكسر. فكتب أشرس إلى ابن أبي العمرطة: إن في الخراج قوة للمسلمين، وقد بلغني أن أهل الصغد وأشباههم ما أسلموا رغبة إنما أسلموا تعوذاً من الجزية، فانظر من اختتن وأقام الفائض وقرأ سورة من القرآن فارفع خراجه.
ثم عزل أشرس ابن أبي العمرطة عن الخراج وصيره إلى هانئ بن هانئ، فمنعم أبو الصيداء من أخذ الجزية ممن أسلم، فكتب هانئ إلى أشرس: عن الناس قد أسلموا وبنوا المساجد. فكتب أشرس إليه وإلى العمال: خذوا الخراج ممن كنتم تأخذونه منه. فأعادوا الجزية على من أسلم. فامتنعوا واعتزلوا في سبعة آلاف على عدة فراسخ من سمرقند، وخرج إليهم أبو الصيداء وربيع بن عمران التميمي والهيثم الشيباني وأبو فاطمة الأزدي وعامر بن قشيراء وبجير الخجندي وبنان العنبري وإسماعيل بن عقبة لينصروهم، فعزل أشرس ابن أبي العمرطة عن الحرب وأستعمل مكانه المجشر بن مزاحم السمي على الحرب وصم إليه عميرة بن سعد الشيباني.
فلما قدم المجشر كتب إلى أبي الصيداء يسأله أن يقدم عليه هو وأصحابه، فقدم أبو الصيداء وثابت قطنة، فحبسهما، فقال أبو الصيداء: غرتم ورجعتم عما قلتم. فقال هانئ: ليس بغدر ما كان فيه حقن الدماء؛ ثم سيره إلى أشرس، فكتبوا إليه، فكتب أشرس: ضعوا عنهم الخراج، فرجع أصحاب أبي الصيداء وضعف أمرهم، فتبع الرؤساء، فأخذوا وحملوا إلى مرو، وبقي ثابت محبوساً، فألح هانئ في الخراج واستخفوا بعظماء العجم والدهاقين وأقيموا وتخرقت ثيابهم وألقيت مناطقهم في أعتاقهم، وأخذوا الجزية ممن أسلم من لضعفاء، فكفرت الصغد وبخارى واستجاشوا الترك.
ولم يزل ثابت قطنة في حبس المجشر حتى قدم نصر بن سيار إلى المجشر والياً فحمله إلى أشرس فحبسه، وكان نصر قد أحسن إليه؛ فقال ثابت يمدحه بأبيات يوقل فيها:
ما هاج شوقك من نؤيٍ وأحجار ** ومن رسومٍ عفاها صوب أمطار

إن كان ظنب بنصرٍ صادقاً أبداً ** فيما أدبر من نقضي وإمراري

لا يصرف الجند حتى يستفئ بهم ** نهباً عظيماً ويحوي ملك جبار

إني وإن كنت من جذم الذي نضرت ** منه الفروع وزندي الثاقب الواري

لذاكر منك أمراً قد سبقت به ** من كان قبلك يا نصر بن سيار

ناضلت عني نضال الحر إذا قصرت ** دوني العشيرة واستبطأت أنصاري

وصار كل صديقٍ كنت آمله ** ألباً علي ورث الحبل من جاري

وما تبلست بالأمر الذي وقعوا ** به علي ولا دنست أطماري

ولا عصيت إماماً كان طاعته ** حقاً علي ولا قارفت من عار

وخرج أشرس غازياً فنزل آمل فأقام ثلاثة أشهر. وقدم قطن بن قتيبة بن مسلم فعبر النهر في عشرة آلاف، فأقبل أهل الصغد وبخارى معهم خاقان والترك، فحصروا قطناً في خندقه، فأرسل خاقان من أغار على مسرح الناس، فأخرج أشرس ثابت قطنة بكفالة عبد الله بن بسطام بن مسعود بن عمرو، فوجهه مع عبد الله بن بسطام في خيل، فاتلوا الترك بآمل حتى استنقذوا ما بأيديهم ورجع الترك.
ثم عبر أشرس بالناس إلى قطن، وبعث أشرس سرية مع مسعود أحد بني حيان، فلقيهم العدو فقاتلوهم، فقتل رجال من المسلمين وهزم مسعود فرجع إلى أشرس، وأقبل العدو، فلقيهم المسلمون فجالوا جولة فقتل رجال من المسلمين، ثم رجع المسلمون وصبروا فانهزم المشركون، وسار أشرس بالناس حتى نزل بيكند، فقطع العدو عنهم الماء وأقام المسلمون يوماً وليلةً وعطشوا فرحلوا إلى المدينة التي قطع العدو بها، وعلى المقدمة قطن ابن قتيبة، فلقيهم العدو فقتلوهم فجهدوا من العطش، فمات منهم سبعمائة، فعجز الناس عن القتال، فحرض الحارث بن سريج الناس فقال: القتل بالسيف أكرم في الدنيا وأعظم أجراً عند الله من الموت عطشاً. وتقدم الحارث وقطن في فوارس من تميم فقاتلوا حتى أزالو التر عن الماء، فابتدره الناس فشربوا واستقوا.
ثم مر ثابت قطنة بعبد الملك بن دثار الباهلي فقال: هل لك في الجهاد؟ فقال: أمهلني حتى أغتسل وأتحنط. فوقف له حتى اغتسل ثم مضيا، وقال ثابت لأصحابه: أنا أعلم بقتال هؤلاء منك؛ وحرضهم، فحملوا، واشتد القتال، فقال ثابت قطنة: اللهم إني كنت ضيف ابن بسطان البارحة فاجعلني ضيفك الليلة، والله لا ينظر إلي بنو أمية مشدوداً في الحديد. فحمل وحمل أصحابه، فرجع أصحابه وثبت هو، فرمي برذونة فشب، وضربه فأقدم، وضرب ثابت فارتث فقال وهو صريع: اللهم إني أصبحت ضيقاً لابن بسطام وأمست ضيفك! فاجعل قراي منك الجنة! فقتلوه وقتلوا معه عدة من المسلمين، منهم: صخر بن مسلم بن النعمان العبدي، وعبد الملك بن دثار الباهلي، وغيرهما؛ وجمع قطن وإسحاق بن محمد بن حبان خيلاً من المسلمين تبايعوا على الموت، فحملوا على العدو فقاتلوهم فكشفوهم وركبهم المسلمون يقتلونهم حتى حجزهم الليل وتفرق العدو، وأتى أشرس بخارى فحصر أهلها.
الحارث بن سريج بالسين المهلمة والجيم.

.ذكر وقعة كمرجه:

ثم عن خاقان حصر كمرجه، وهي من أعظم بلدان خراسان، وبها جمع من المسلمين، ومع خاقان أهل فرغانة وأفشينة ونسف وطوائف من أهل بخارى، فاغلق المسلمون الباب وقطعوا القنطرة التي على الخندق. فأتاهم ابن خسرو بن يزدجرد فقال: يا معشر العرب لم تقتلون أنفسكم؟ أنا الذي جئت بخاقان ليرد علي مملكتي وأنا آخذ الأمان. فشتموه. وأتاهم بازغرى في مائتين، وكان داهية، وكان خاقان لا يخالفه، فدنا من المسلمين بأمان وقال: لينزل إلي رجل منكم أكلمه بما أرسلني به خاقان. فأحذروا يزيد بن سعيد الباهلي، وكان يفهم التركية يسيراً، فقال له: إن خاقان أرسلني وهو يقول إني أجعل من عطاؤه منكم ستمائة ألفاً، ومن عطاؤه ثلاثمائة وستمائة، وهو يحسن إليكم. فقال له يزيد: كيف تكون العرب وهم ذئاب مع الترك وهم شاء! لا يكون بيننا وبينهم صلح. فغضب بازغرى، وكان معه تركيان، فقالا: ألا تضرب عنقه؟ فقال: إنه نزل بأمان. وفهم يزيد ما قالا فخاف فقال: بلى إنما تجعلوننا نصفين فيكون نصفنا مع أثقالنا ويسير النصف معكم، فإن ظفرتم فنحن معكم، وإن كان غير ذلك كنا كسائر مدائن الصغد. فرضوا بذلك، وقال: أعرض على أصحابي هذا. وصعد في الحبل، فلما صار على السور نادى: يا أهل كمرجه اجتمعوا فقد جاءكم قوم يدعونكم إلى الكفر بعد الإيمان، فما ترون؟ قالوا: لا نجيب ولا نرضى. قال: يدعونكم إلى قتال المسلمين مع المشركين. قالوا نموت قبل ذلك. فرد بازغرى.
ثم أمر خاقان بقطع الخندق، فجعلوا يلقون الحطب الرطب ويلقي المسلمون الحطب اليابس حتى سوي الخندق فأشعلوا فيه النيران وهاجت ريح شديدة صنعاً من الله فاحترق الحطب وكانوا جمعوه في سبعة أيام، في ساعة واحدة.
ثم فرق خاقان على الترك أغناماً وأمرهم أن يأكلوا لحمها ويحشوا جلودها تراباً وكبسوا خندقها، ففعلوا ذلك، فأرسل الله سحابة فمطرت مطراً شديداً، فاحتمل السيل ما في الخندق وأقاه في النهر العظيم. ورماهم المسلمون بالسهام فأصابت بازعغرى نشابة في سرته فمات من ليلته، فدخل عليهم بموته أمر عظيم. فلما امتد النهار جاؤوا بالأسرى الذين عندهم، وهم مائة، فيهم أبو العوجاء العتكي والحجاج بن حميد النضري، فقتلوهم ورموا برأس الحجاج، وكان عند المسلمين مائتان من أولاد المشركين رهائن فقتلوهم واستماتوا، واشتد القتال.
ولم يزل أهل كرمجه كذلك حتى أقبلت جنود العرب فنزلت فرغانة، فعير خاقان أهل الصغد وفرغانة والشاش والدهاقين وقال: زعمتم أن في هذه خمسين حماراً وأنا نفتحها في خمسة أيام فارت الخمسة شهرين. وأمرهم بالرحيل وشتمهم، فقالوا: ما ندع جهداً، فاحضرنا غداً وانظر ما نصنع. فلما كان الغد وقف خاقان وتقدم ملك الطاربند فقاتل المسلمين فقتل منهم ثمانية، وجاء حتى وقف على ثلمة إلى جانب بيت فيه مريض من تميم، فرماه التميمي بكلوب، فتعلق بدرعه، ثم نادى النساء والصبيان فجذبوه فسقط لوجه، ورماه رجل بحجر فأصاب أصل أذنه فصرع، وطعنه آخر فقتله، فاشتد قتله على الترك.
وأرسل خاقان إلى المسلمين: إنه ليس من رأينا أن نرتحل عن مدينة نحاصرها دون إفتتاحها أو ترحلهم عنها. فقالوا له: ليس من ديننا أن نعطي بأيدينا حتى نقتل فاصنعوا ما بدا لكم. فأعطاهم الترك الأمان أن يرحل خاقان عنهم وبرحوا هم عنها إلى سمرقند أو الدبوسية، فرأى أهل كمرجه ما هم فيه من الحصار فأجابوا إلى ذلكم، فأخذوا من الترك رهائن أن لا يعرضوا لهم وطلبوا أن كورصول التركي يكون معهم في جماعة لمينعهم إلى الدبوسية، فسلموا إليهم الرهائن وأخذوا أيضاً هم من المسلمين رهائن، وارتحل خاقان عنهم، ثم رحلوا هم بعده، فقال الأتراك الذين مع كورصول: إن بالدبوسية عشرة آلاف مقاتل ولا نأمن أن يخرجوا علينا. فقال لهم المسلمون: إن قاتلوكم قاتلناهم معكم.
فساروا، فلما صار بينهم وبين الدبوسية فرسخ نظر أهلها إلى الفرسان فظنوا أن كمرجه فتحت وأن خاقان قد قصدهم فتأهبوا للحرب، فأرسل المسلمون إليهم يخبرونهم خبرهم، فالتقوهم وحملوا من كان يضعف عن المشي ومن كان مجروحاً. فلما بلغ المسلمون الدبوسية أرسلوا إلى من عنده الرهائن يعلمونه بوصولهم ويأمرونه بإطلاقهم، فجعلت العرب تطلق رجلاً من الرهن والترك رجلاً حتى بقي سباع بن النعمان مع الترك، ورجل من الترك عند العرب، وجعل كل فريق يخاف من صاحبه الغدر، فقال سباع: خلوا رهينة الترك، فخلوه، وبقي سباع مع الترك، فقال له كورصول: ما حملك على هذا؟ قال: وثقت بك وقلت ترفع نفسك عن الغدر، فوصله كورصول وأعطاه سلاحه وبرذوناً وأطلقه.
وكانت مدة حصار كمرجة ثمانية وخمسين يوماً فيقال: إنهم لم يسقول إبلهم خمسة وثلاثين يوماً.

.ذكر ردة أهل كردر:

في هذه السنة أرتد أهل كردر، فأرسل إليهم أشرس جنداً فظفروا بهم؛ فقال عرفجة:
ونحن كفينا أهل مرو وغيرهم ** ونحن نفينا الترك عن أهل كردر

فإن تجعلوا ما قد غنمنا لغيرنا ** فقد يظلم المرء الكريم فيصبر

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة جمع خالد القسري الصلاة والأحداث والشرط والقضاء بالبصرة لبلال بن أبي بكرة وعزل ثمامة عن القضاء. وفيها غزا مسلمة الترك من باب اللان، فلقي خاقان في جموعه فاقتتلوا قريباً من شهر وأصابهم مطر شديد، فانهزم خاقان وانصرف ورجع مسلمة فسلك على مسلك ذي القرنين. وفيها غزا معاوية الروم ففتح صملة. وفيها غزا الصائفة عبد الله بن عقبة الفهري، وكان على جيش البحر عبد الرحمن بن معاوية بن حديج، بضم الحاء وفتح الدال المهملتين.
وحج بالناس إبراهيم بن إسماعيل. فكان العمال على البلاد هذه السنة من تقدم ذكرهم في السنة التي قبلها. وفيها مات الحسن البصري وله سبع وثمانون سنة. ومحمد بن سيرين وهو ابن إحدى وثمانين سنة. وفيها، أعني سنة عشر ومائة، مات الفرزدق الشاعر وله إحدى وتسعون سنة. وجرير بن الخطفى الشاعر. ثم دخلت:

.سنة إحدى عشرة ومائة:

.ذكر عزل أشرس عن خراسان واستعمال الجنيد:

في هذه السنة عزل هشام أشرس بن عبد الله عن خراسان.
وكان سبب ذلك أن شداد بن خليد الباهلي شكاه إلى هشام، فعزله واسعمل الجنيد بن عبد الرحمن على خراسان، وهو الجنيد بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث بن خارجة بن سنان بن أبي حارثة امري. وكان سبب استعماله أنه أهدى لأم حكيم بنت يحيى بن الحكم امرأة هشام قلادةً في جوهر، فأعجبت هشاماً، فأهدى لهشام قلادةً أخرى، فاستعمله وحمله على ثمانية من البريد، فقدم خراسان وقطعا النهر، وأرسل الجنيد إلى أشرس وهو يقاتل أهل بخارى والصغد: أن أمدني بخيل، وخاف أن يقتطع دونه فوجه إليه أشرس عامر بن مالك الحماني، فلما كان عامر ببعض الطريق عرض له الترك والصغد، فدخل حائطاً حصيناً وقاتلهم على الثلمة ومعه ورد بن زياد بن أدهم بن كلثوم وواصل بن عمرو القيسي. فخرج واصل وعاصم بن عيمر المسقندي ومعهما غيرهما فاستداروا حتى صاروا من وراء الماء الذي هناك. ثم جمعوا قصباً وخشباً وعبروا عليه، فلم يشعر خاقان إلا والتكبير من خلفه، وحمل الملمون على الترك، فاتلوهم فقتلوا عظيماً من عظمائهم وانهزم الترك، وار عامر إلى الجنيد، فلقيه وأقبل معه، وعلى مقدمة الجنيد عمارة بن حريم، فلما انتهى إلى فرسخين من بيكند تلقته خيل الترك فقاتلتهم، فكاد الجنيد يهلك ومن معه، ثم أظهره الله وسار حتى قدم العسكر، فظفر الجنيد وقتل الترك، وزحف غليه خاقان، فالتقوا دون رزمان من بلاد سمرقند، وقطن بن قتيبة على ساقة الجنيد. فأسر الجنيد من الترك ابن أخي خاقان في هذه الغزاة فبعث به إلى هشام.
وكان الجنيد عماله ولم يستعمل إلا مضرياً، استعمل قطن بن قتيبة على بخارى، والوليد بن القعقاع العبسي على هراة، وحبيب بن مرة العبسي على شرطه، وعلى بلخ مسلم بن عبد الرحمن بالباهلي، وكان عليها نصر بن سيار، وكان ما بينه وبين الباهليين متباعداً لما كان بينهم بالبروقان، وأرسل مسلم إلى نصر فصادفوه نائماً، فجاؤووا به في قميص ليس عليه سراويل ملبياً، فقال شيخ من مضر: جئتم به على هذه الحال! فعزل الجنيد مسلماً عن بلخ واستعمل يحيى بن ضبيعة، واستعمل على خراج سمرقند شداد بن خليد الباهلي.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة غزا معاوية بن هشام الصائفة اليسرى، وغزا سعيد بن هشام الصائفة اليمنى حتى أتى قيسارية، وغزا في البحر عبد الله بن أبي مريم. واستعمل هشام على عامة الناس من الشام ومصر الحم بن قيس بن مخرمة ابن عبد المطلب بن عبد مناف. وفيها سارت الترك إلى أذربيجان فلقيهم الحارث ابن عمرو فهزمهم. وفيها استعمل هشام الجاح بن عبد الله الحكمي على أرمينية وعزل أخاه مسلمة بن عبد الملك، فدخل بلاد الجذر من ناحية تفليس فتح مدينتهم البيضاء وانصرف سالماً، فجمعت الخزر وحشدت وسارت إلى بلاد الإسلام، وكان ذلك سبب قتل الجراح، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها عزل عبيدة بن عبد الرحمن، عامل إفريقية، عثمان بن نسعة عن الأندلس واستعمل بعده الهيثم بن عبيد الكناني، وقدمها في المرحم سنة إحدى عشرة ومائة، وتوفي في ذي الحجة من السنة، فكانت ولايته عشرة أشهر.
وحج بالناس هذه السنة إبراهيم بن هشام المخزومي، فكان العمال من تقدم ذكرهم إلا خراسان كان بها الجنيد، وكان بأرمينية الجراح بن عبد الله. ثم دخلت:

.سنة اثنتي عشرة ومائة:

.ذكر قتل الجراح الحكمي:

في هذه السنة قتل الجراح بن عبد الله الحكمي. وسبب ذلك ما ذكرناه قبل من دخوله بلاد الخزر وانهزامهم، فلما هزمهم اجتمع الخزر والترك من ناحية اللان، فلقيهم الجراح بن عبد الله فيمن معه من أهل الشام فاقتتلوا أشد قتال رآه الناس، فصبر الفريقان، وتكاثرت الخزر والترك على المسلمين، فاستشهد الجراح ومن كان معه بمرج أدبيل، وكان قد استخلف أخاه الحجاج ابن عبد الله على أرمينية.
ولما قتل الجراح طمع الخزر وأغلوا في البلاد حتى قاربوا الموصل، وعظم الخطب على المسلمين.
وكان الجراح خيراً فاضلاً من عمال عمر بن عبد العزيز، ورثاه كثير من الشعراء. وقيل: كان قتله ببلنجر.
ولما بلغ هشاماً خبره دعا سعيداً الحرشي فقال له: بلغني أن الجراح قد انحاز عن المشركين. قال: كلا يا أمير المؤمنين، الجراح أعرف بالله من أن ينهزم ولكنه قتل. قال: فما رأيك؟ قال: تبعثني على أربعين دابة من دواب البريد، ثم تبعث إلي كل يوم أربعين رجلاً، ثم اكتب إلى أمراء الأجناد يوافوني.
ففعل ذلك هشام، وسار الحرشي، فكان لا يمر بمدينة إلا ويستنهض أهلها فيجيبه من يزيد الجهاد، ولم يزل كذلك حتى وصل إلى مدينة أرزن، فلقيه جماعة من أصحاب الجراح وبكوا وبكى لبكائهم وفرق فيهم نفقةً وردهم معه، وجعل لا يلقاه أحد من أصحاب الجراح إلا رده معه، ووصل إلى خلاط، وهي ممتنعة عليه، فحصرها أيضاً وفتحها وقسم غنائمها في أصحابه. ثم سار عن خلاط وفتح الحصون والقلاع شيئاً بعد شيء إلى أن وصل إلى برذعة فنزلها.
وكان ابن خاقان يومئذ بأذربيجان يغي وينهب ويسبي ويقتل وهو محاصر مدينة ورثان، فخاف الحرشي أن يملكها، فأرسل بعض أصحابه إلى أهل ورثان سراً يعرفهم وصولهم ويأمرهم بالصبر، فسار القاصد، ولقيه بعض الخزر فأخذوه وسألوه عن حاله، فاخبرهم وصدقهم، فقالوا له: إن فعلت ما نأمرك به أحسنا إليك وأطلقناك وإلا قتلناك. قال: فما الذي يريدون؟ قالوا: تقول لأهل ورثان إنكم ليس لكم مدد ولا من يكشف ما بكم، وتأمرهم بتسليم البلد إلينا. فأجابهم إلى ذلك.
فلما قارب المدينة وقف بحيث يسمع أهلها كلامه فقال لهم: أتعرفوني؟ قالوا: نعم أنت فلان. قال: فإن الحرشي قد وصل إلى مكان كذا في عساكر كثيرة، وهو يأمركم بحفظ البلد والصبر، ففي هذين اليومين يصل إليكم فرفعوا أصواتهم بالتكبير والتهليل.
وقتلت الخزر ذلك الرجل ورحلوا عن مدينة ورثان، فوصلها الحرشي في العساكر وليس عندها أحد. فارتحل يطلب الخزر إلى أردبيل، فسار الخزر عنها ونزل الحرشي باجروان، فأتاه فارس على فرس أبيض فسلم عليه وقال له: هل لك أيها المير في الجهاد والغنيمة؟ قال: كيف لي ذلك؟ قال: هذا عسكر الخزر في عشرة آلاف ومعهم خمسة آلاف من أهل بين من المسلمين أسارى أو سبايا وقد نزلوا على أربعة فراسخ.
فسار الحرشي ليلاً فوافاهم آخر الليل وهم نيام، ففرق أصحابه في أربع جهات فكبسهم مع الفجر ووضع المسلمون فيهم السيف، فما بزغت الشمس حتى قتلوا أجمعون غير رجل واحد، وأطلق الحرشي من معهم من المسلمين وأخذهم إلى باجروان، فلما دخلها أتاه ذلك الرجل صاحب الفرس الأبيض فسلم وقال: هذا جيش للخزر ومعهم أموال المسلمين وحرم الجراح وأولاده بمكان كذا. فسار الحرشي إليهم، فما شعروا إلا والمسلمون معهم فوضعوا فيهم السيف فتقلوهم كيف شاؤوا، ولم يفلت من الخزر إلا الشريد، واستنفذوا من معهم في المسلمين والمسلمات وغنموا أموالهم، وأخذ أود الجراح فأكرمهم وأحسن إليهم، وحمل الجميع إلى باجروان.
وبلغ خبر فعله الحرشي بعساكر الخزر ابن ملكهم، فوبخ عساكره وذمهم ونسبهم إلى العجز والوهن، فحرض بعضهم بعضاً وأشاروا عليه بجمع أصحابه والعود إلى قتال الحرشي. فجمع أصحابه من نواحي أذربيجان، فاجتمع معه عساكر كثيرة، وسار الحرشي إليه فالتقيا بأرض برزند، واقتتل الناس أشد قتال وأعظمه، فانحاز المسلمون يسيراً، فحرضهم الحرشي وأمرهم بالصبر، فعادوا إلى القتال وصدقوهم الحملة، واستغاث من مع الخزر من الأساى ونادوا بالتكبير والتهليل والدعاء، فعندها حرص المسلمون بعضهم بعضاً ولم يبق أحد إلا وبكى رحمةً للأسرى، واشتدت نكايتهم في العدو، فولوا الأدبار منهزمين، وتبعهم المسلمون حتى بلغوا بهم نهر رأس، وعادوا عنهم وحووا ما في عساكرهم من الأموال والغنائم، وأطلقوا الأسرى والسبايا وحملوا الجميع إلى باجروان.
ثم إن ابن ملك الخزر جمع من لحق به من عساكره وعاد بهم نحو الحرشي فنزل على نهر البيلقان، فالتقوا هناك، فصاح الحرشي بالناس، فحملوا حملةً صادقة ضعضعوا صفوف الخزر، وتابع الحملات وصبر الخزر صبراً عظيماً ثم كانت الهزيمة عليهم، فولوا الأدبار منهزمين، وكان من غرق منهم في النهر أكثر ممن قتل.
وجمع الحرشي الغنائم وعاد إلى باجروان فقسمها، وأرسل الخمس إلى هشام بن عبد الملك وعرفه ما فتح الله على المسلمين، فكتب إليه هشام يشكره. وأقام بباجروان، فأتاه كتاب هشام يأمره بالمصير إليه، واستعمل أخاه مسلمة ابن عبد الملك على أرمينية وأذربيجان، فوصل إلى البلاد وسار إلى الترك في شتاء شديد حتى جاز الباب في آثارهم.